غزة تتنفس أخيرًا، بعد غرق طويل في ويلات القصف.
السماء التي كانت تُمطر نارًا صارت صامتة، والبحر ذاك الشاهد الأبدي بدا كأنه يحبس أنفاسه احترامًا لجراح المدينة.
لم يكن الصمت الذي تلا القصف سلامًا، بل فراغًا ثقيلًا بين نغمتين من الألم.
خرج الناس من تحت الركام لا ليحتفلوا، بل ليتأكدوا أنهم ما زالوا هنا، في مكانٍ ما بين الحياة والغياب.
الناس كانت اعتادت صوت الطائرات أكثر من صوت الأذان، ووقع الأقدام في الطرقات.
طفل يجرّ دميته المكسورة، وامرأة تحمل ما تبقى من بيتها في كيس بلاستيكي، ورجل ينظر إلى السماء بحذر، حمدًا ورجاءً أن يستمر السلام، يقينًا أن ماهو آت أفضل.
غزة تشبه نجمة سقطت على الأرض، احترقت لتضيء أكثر.
وقف الإبادة في فلسطين ليس انتصارًا عسكريًا، بل نجاة أخلاقية للعالم من سقوطٍ أعمق.
أن يتوقف القصف يعني أن الحياة كسبت جولة مؤقتة أمام فكرة الفناء.
أن يتراجع الدخان يعني أن هناك من لا يزال يؤمن أن الأطفال لا ينبغي أن يُدفنوا مع أحلامهم.
كل نفسٍ يسحبه من بقي، هو احتجاجٌ صغير على من أراد أن يمحو اسم فلسطين من الوجود.
كما يجدد العنقاء نفسه ذاتياً فهو يعود لينهض من جديد من الرماد بعدما يحترق فهو الطائر الرمز للمستحيل ، رمز لقيام الصمود من رماد الموت يعود وسيظل يعود.
العالم، كعادته، بدا مرتبكًا.
يتحدث عن "هدنة إنسانية" كما لو أن العدالة يمكن أن تكون مؤقتة، وكأن الوجع يمكن جدولته بمواعيد دولية.
ومع ذلك، لم ينتظر الفلسطينيون أن يُمنحوا حق الحياة من أحد؛ صنعوه بأنفسهم. في كل شارع، على كل جدار، في كل علمٍ ارتفع فوق ركام بيت، كان المعنى يتجدد: لن نُمحى.
وقف الإبادة لا ينهي المأساة، بل يفتح باب المحاسبة.
من سيكتب الرواية؟ من سيحاول تلميع الجريمة؟ من سيجرؤ على القول إن الفلسطيني، الذي دفن عائلته بيديه، ما زال إنسانًا قادرًا على الحلم لا مجرد رقمٍ في تقرير إخباري؟
الأسئلة تُركت مفتوحة، لأن العدالة لا تبدأ إلا حين تُسمّى الجريمة باسمها.
غزة اليوم ليست مدينة مدمَّرة، بل شهادة حيّة على أن الفناء يمكن مقاومته.
في كل أمٍ لم تبكِ أمام الكاميرا، في كل طفلٍ أعاد رسم علمه على جدارٍ محروق، في كل مسعفٍ عاد إلى الميدان رغم الخطر ، تتجسد المكاسب الحقيقية لوقف الإبادة.
أن تبقى، أن تشهد، أن تروي.
حين يصمت الموت في فلسطين، لا يكون الصمت راحةً، بل إعلانًا أن الأرض التي شربت دماء أبنائها لن تصمت عن الحق بعد الآن.
وأن هذا الشعب، الذي عاش الكثير من الجراح، ما زال يكتب بلحمِه وذاكرته جملةً واحدةً لا تُمحى
"ما زلنا هنا."
----------------------------------
بقلم: حاتم نظمي